يصبّ آلاف العلماء جهوداً جبارة لإيجاد طرق لتعزيز ذكاء البشر والارتقاء به، بداية من محاولة منع الخرف وتدهور القدرات العقليّة عند الشيوخ، ومروراً بالوقاية من مرض «آلزهايمر» Alzheimer، بل الشفاء منه، ووصولاً إلى تعزيز توقّد الذكاء عن الأصحاء العاديين، خصوصاً في مرحلة الطفولة. ولا شك في حصول تقدّم علمي هائل في التعرّف إلى خصائص الدماغ، وعلاقته بالفكر والسلوك والعواطف والتصرّفات وغيرها.
وفي المقابل، هناك بون شاسع بين ذلك التقدّم من جهة، وادعاء القدرة على تحويل كل طفل إلى آينتشتاين من جهة أخرى!
مثلاً، أثبتت تجربة عملية شهيرة أن راهبات في الغرب دأبن على إشغال أذهانهن باستمرار في عمليات فكريّة مركبة، حتى حين وصولهن إلى سنوات الشيخوخة. وبات معروفاً أن التحصيل العلمي المتقدّم والاستمرار في النشاط الذهني المتنوّع، يعطي وقاية من شيخوخة الدماغ وتدهور وظائفه. وتكراراً، تلك الأمور كلها شيء والمزاعم التي تروّجها مدارس «شُطّار» استغلال الرغبة في الذكاء وامتلاكه شيء آخر.وطري في الذاكرة أيضاً أن «هيئة الإذاعة البريطانية» «بي بي سي» تولت بنفسها دعم دراسة واسعة شملت 11 ألف شخص لتقويم النتائج الفعليّة لبرامج تدريب الدماغ. النتيجة؟ لا فارق فعلياً في قدرات الدماغ المعرفيّة بين من انخرطوا في التدريب وبين من لم يمارسوه، وفق ما أوضحه خبراء أشرفوا على تلك الدراسة. وأرغمت تلك النتائج كثيراً من شركات صناعة برامج تدريب الدماغ على سحب مزاعمها عن قدرة برامجها على تحسين الذكاء المعرفي للدماغ، لتقصرها على... تنشيط الدماغ! الفارق هائل بين الأمرين. المعروف أنّ ممارسة نشاطات فكريّة متنوّعة، على نحو ما يفترض أن تفعله المدارس، يساهم في تنشيط الدماغ.
وكذلك الحال بالنسبة الى ممارسة نشاطات لاصفيّة عند الأطفال، ويصعب أن يستثنى من قائمة التنشيط عناصر بيولوجية محضة، إذ تصح فيها الحكمة التقليدية التي تقول: «العقل السليم في الجسم السليم»، ما يعني ان الرياضة المدرسيّة لها دور كبير أيضاً في دعم نشاط الدماغ عند الأطفال والمراهقين، بل حتى البالغين وكبار السن أيضاً.
يبدو بديهيّاً القول إن الذكاء صفة عزيزة على البشر، بل إن بعضهم يضعه على قدم المساواة مع هوية الإنسان نفسه. ويميل البشر لإعلاء الذكاء على الصفات كافة. ولم يقلق الإنسان لأن الحيوانات تفوقه قوة، وأسرع منه ركضاً، وتقفز بأعلى مما يستطيع، وتسير أضعاف ما يقدر. وفي المقابل، ارتجّ العالم عند هزيمة بطل الشطرنج الأسطوري غاري كاسباروف أمام الكومبيوتر «ديب بلو» Deep Blue في أواخر التسعينات من القرن العشرين. وآنذاك تجدد النقاش عن مصير البشرية حين تتفوّق الآلات عليها في الذكاء وهي على الأرجح الصفة التي يعتبر البشر أنها لا تضاهى. وثمة حلم عميق بالذكاء يعبّر عن نفسه في صور لا حصر لها. والأرجح أن عصر الكومبيوتر والروبوت، جعل الحلم أشد قوة، بل ربما أكثر قسوة أيضاً. وعلى الشاشات الفضيّة لأحلام البشر (التلفزيون)، حلّت لعبة الـ «آتاري» Atari (ثم تلتها الـ «نينتندو» Nintendo) ضيفاً في أواخر القرن الفائت. والأرجح أنها أبعد من مجرد مصادفة، إذ لا يتردّد نولان بوشنِل، أحد مؤسسي صناعة الألعاب الإلكترونيّة، عن القول إن «آتاري» وألعاب الفيديو، سعت أساساً لزيادة ذكاء الدماغ البشري، خصوصاً في مرحلة الطفولة، حين تكون مطواعية الدماغ Brain Plasticity في قمّتها.