إن ما أحدثته ثورة الاتصالات في القرن الماضي من تأثيرات وتغيّرات طاولت مناحي الحياة على هذا الكوكب، جعلت الأبواب مُشرّعة تماماً بعد أن كانت موصدة، أو شبه موصدة في وجه رياح التغيير، حيث غزت تقنياتها الوجود الإنساني بكل أبعاده الروحية والفكرية، وحتى البيولوجية، وساهمت في شكل أو آخر بتشكيل منظومة الوعي الثقافي والاجتماعي في هذه المجتمعات. ومجتمعاتنا ولا شك، هي واحدة من هذه البلدان.
وهكذا، وبكل بساطة دخلنا عوالم الفضائيات والخليوي والكمبيوتر والإنترنت وما إلى ذلك، من أبوابها الواسعة بما هو مفيد أو غير ذلك.
ويشابه التعاطي المشوّه مع تلك التقنيات إلى حدّ كبير المخدرات التقليدية، باختلاف أن التعاطي معها يتمّ في شكل مُستتر لما تلاقيه من رفض اجتماعي وأخلاقي ورسمي، وحتى قانوني، وآثارها السلبية والتخريبية قريبة المدى، بينما التقنيات الحديثة، والتي لا تلاقي الرفض لا الرسمي ولا الاجتماعي، وآثارها السلبية بعيدة المدى، لا تظهر في الأفق المنظور من حياة الشخص أو المجتمع، وإنما تكمن سمومها كالسرطان داخل التكوين النفسي والفكري للشخص، ما يحمل معه آثاراً بالغة الخطورة في علاقته بمحيطه الاجتماعي لاحقاً من خلال ما غزا بنيته النفسية والفكرية من معتقدات ومفاهيم.
لكنّ الأشد خطورة يقع في حيّز الإنترنت الذي يأخذ الكبار قبل الصغار إلى دروب وعرة، لا سيما أنه أصبح في متناول اليد من طريق الهواتف الخليوية والذكية، وبالتالي فإن الخطر يزداد يوماً بعد يوم وبنسب مرتفعة ومخيفة.
وتشير التقارير والتحقيقات الصحافية إلى اختراقات متعددة الاتجاهات لخصوصية الفرد أو المجتمع عبر مختلف تقنيات التكنولوجيا، والتي تكشف أن استهلاك المخدرات لم يعد مُقتصراً على حقنها في الوريد أو بمضغها أو شمها أو تدخينها، وإنما تطور الفكر الإنساني ليُحوّل نُظُم التعاطي إلى تعاطٍ إلكتروني أو رقمي يُحدث التأثير عينه الذي تحدثه المخدرات الطبيعية أو التقليدية الأخرى، فما هي هذه المخدرات؟
المخدرات الرقمية هي عبارة عن ملفات صوتية تترافق مع مواد بصرية أحياناً وأشكال وألوان متحرّكة وفق معدّل مدروس، تمّت هندستها لتخدع الدماغ من طريق بث أمواج صوتية متباينة التردد في كلا الأُذنين. ولأن هذه الموجات غير مألوفة، يحاول الدماغ العمل على توحيدها في الأذنين في شكل طبيعي، لكنه يتعثّر في ذلك ويصبح غير مستقر كهربائياً، ما ينتج عنه الإحساس بسماع صوت ثالث، وهو ما يُدعى بالخداع السمعي.
إذاً، هي عبارة عن نغمات موسيقية محمولة على أقراص مُدمجة (MP3) أو على أسطوانات مختلفة يمكن الحصول عليها بسهولة من مواقع خاصة عبر «الإنترنت» وتحميلها على أي جهاز «موبايل» أو حاسوب شخصي والاستماع إليها ليحدث التفاعل المطلوب والشبيه بمفعول المخدرات التقليدية وتأثيرها في صورة تشابه تلك التي يتم بها التعاطي التقليدي للكوكايين واقعياً. هنا يتمّ التحكّم في الحالة النفسية للمستمع من خلال هذه الترددات التي أطلق عليها مروّجو هذا النوع من المخدرات أسماء من مثل «عيش الجو»، «حلّق في السماء»، «المتعة في الموسيقى»، وبعضها يروّج على أنه لأجل إنقاص الوزن.
ولا تحتاج هذه الملفات سوى إلى جهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي والانزواء في غرفة مقفلة الأبواب والنوافذ، ومن ثمّ التمدد على السرير وعصب العينين والانطلاق بعد ذلك في رحلة المتعة والاسترخاء التي ستقود إلى الضياع.
نشأت «المخدرات الرقمية» على يدي العالم الألماني الفيزيائي هينريش دوف عام 1839، واستخدمت للمرة الأولى عام 1970 لعلاج حالات نفسية، لشريحة من المصابين بالاكتئاب الخفيف في حالة المرضى الذين يرفضون العلاج السلوكي (الأدوية)، ولهذا تمّ العلاج من طريق تذبذبات كهرومغناطيسية، لإفراز مواد منشّطة للمزاج. غير أن خطورة هذا الاكتشاف اليوم، تتمثّل في أن هذه التقنية - المخدرات لم تعد مُقتصرة على الأطباء والإختصاصيين، بل باتت في متناول الجميع ومن مختلف الأعمار والشرائح والفئات، وبلا رقيب أو رادع. كما نشأت مواقع متخصصة تبيع هذه النغمات على مواقع الإنترنت، وتروّج عبر مواقع التواصل الإجتماعي مقابل القليل من الدولارات، حيث يعتمد المروجون أساليب جذب متنوّعة تبدأ بالتحميل المجاني بعيّنة تجريبية، وحين يستغرق المستخدم فيها يكون أمام حتمية الشراء. لكن الخطورة الأفظع فيها، أنها خالية من مواد كيماوية مؤثّرة كالتي في التقليدية، وأنها بدأت تنتشر على مواقع الـ»يوتيوب».
ولا يزال تداول هذا النوع من «المخدرات» حديثاً نسبياً في عالمنا العربي، على رغم انتشاره في أوروبا منذ أعوام، وقد حذرت منه بلدان عربية عدة، أولها لبنان (لعبة مريم والحوت الأزرق وقصة الطفلة اللبنانية التي حاولت الانتحار مرات)، بعد انتشاره بين شبابها، وأخيراً دبّ الذعر في بلدان عربية أخرى إثر أنباء متضاربة حول أول وفاة بسبب هذه المخدرات. حيث أجرى الباحث الأردني علي المستريحي وهو خبير أمن المعلومات وإدارة الأزمات، بحثاً في السعودية تبيّن له فيه أن عدد الملفات الصوتية الرقمية المشتراة من قبل السعوديين بلغت 3160 ملفاً صوتياً خلال عام 2015 بقيمة لا تقل عن 90 ألف دولار، أي ما يعادل 350 ألف ريال سعودي، وأشار إلى أن أعمار المشترين تراوحت ما بين 16 و24 سنة.
أما في الغرب، فإن نسبة الانتشار كبيرة، لكننا لم نعثر على إحصاءات دقيقة بهذا الشأن، والسبب يعود في اعتقادي إلى قبولها في المجتمع أو اعتبارها طبيعية وعادية من حيث التعامل مع تقنيات التكنولوجيا من قبل الناس عموماً والشباب خصوصاً. غير أن الولايات المتحدة الأميركية كانت قد تنبّهت للمسألة عام 2010 خشية انتشارها في المجتمع في شكل يصعب فيه ضبطها، نظراً لعدم وجود رقابة رسمية أو حظر لمثل هذه النغمات في الوقت الحالي للأسف، لأنه وفي ظلّ الانتشار الواسع والمكثّف لمختلف وسائل الاتصال والتواصل، يصعب ضبط الحالة بالآليات التقليدية المُتّبعة. كما لا يوجد تشريع عقابي لها بحكم أنها غير مرئية أو محسوسة، ولا أركان للجرم فيها، لذا فهي حتى اليوم لا تقع تحت طائلة القانون. من هنا لا بدّ من تعاون الأمن العام في كل بلد مع مباحث الإنترنت وخبرائها والإعلام لوضع خطة عمل موحّدة لمعرفة المواقع المشبوهة كي تحجب على صعوبة هذا الحل، وأيضاً القيام بحملات توعية مجتمعية ورسمية برعاية الإعلام بمختلف وسائله، بالتعاون مع المجتمع المدني والهيئات الأخرى ذات الصلة أو العلاقة مع الأجيال كوزارتي التربية والتعليم العالي.
لا شكّ في أن الأسباب الداعية لانتشار هذا النوع من المخدرات أو حتى الاستغراق في عموم وسائل التواصل والتكنولوجيا، هي ذاتها القابعة وراء المخدرات التقليدية وكذلك لها الآثار السلبية ذاتها. لذا، فإن علاجها يبدأ من الوقاية القائمة على متابعة الأبناء فيما يتعاملون معه من تقنيات ومواقع. لكن هناك إجراءات رسمية وحكومية من الضروري اتخاذها كسنّ قانون دولي لتجريم استخدام هذه المخدرات وإدراجها تحت خانة جرائم الاتجار بالبشر. إضافة إلى استيعاب طاقات الشباب، وتشجيعهم على الاندماج في الأنشطة الإجتماعية والرياضية في شكل إيجابي، مع العمل لبناء روابط إنسانية معهم، لا سيما في فترة المراهقة، بما يضمن مصارحة الأبناء الأهل بتجاربهم غير الآمنة من دون خوف من العقاب، ما يمنحهم شعوراً بتقدير الذات.