قطع قادة الأديان من مختلف دول العالم ـ خاصة الديانات السماوية الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية) ـ شوطاً كبيراً في التفاهم، عبر عقود طويلة من الحوار والنقاش، على أكثر من مسار، سواء بين الأزهر والفاتيكان أو الأزهر والكنيسة الأنجليكانية، أو عبر منصة مركز الملك عبد الله للحوار الذي يتخذ من العاصمة النمساوية فيينا مقراً له، ومن خلال المنصة الأوسع والأكبر وهي مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية الذي تستضيفه العاصمة الكازاخستانية آستانا كل ثلاث سنوات، منذ عام 2003 حيث يفتح المؤتمر منصته في ذات الوقت لأتباع الأديان غير الإبراهيمية، فيحضر ممثلو البوذية والسيخية والمانوية.
وقد شهدت الدورة السادسة لمؤتمر ممثلي الأديان العالمية والتقليدية الذي انعقد يومي 10 و11 أكتوبر الجاري برعاية الرئيس الكازاخستاني نورسلطان نزاربايف، توافقاً كبيراً حول حتمية الوصول إلى سلام عالمي ينهي المآسي والصراعات التي تكتوي بها البشرية، فقادة الأديان أقروا جميعاً بأنه ليست لديهم مشكلات مع بقية الديانات، وأنهم على ثقة بأنه لا يوجد دين يدعو للصراع، أو يقف ضد السلام، وكان القاسم المشترك لكل ممثلي الديانات هو الرغبة الصادقة في وقف الصراعات، إيماناً بأنه يكفي البشرية ما تعانيه من كوارث طبيعة من فيضانات وزلازل وبراكين وعواصف، وأعاصير وموجات جفاف وفيضانات وسيول وأوبئة وأمراض، وأنه حان الوقت للبشرية أن تقف يداً واحدة في مجابهة هذه الكوارث لا أن تصنع بأيدها كوارث جديدة.
وقد خرج البيان الختامي للمؤتمر الذي يعد منصة عالمية فريدة لتطوير وتعزيز الحوار بين الحضارات والأديان، حاملاً شعاراً يعكس حصاد هذه الحوارات وهو" متحدون في السعي نحو إقرار السلام والوفاق والتعاون البناء من أجل رخاء الإنسانية جمعاء".
وسعى قادة الأديان في بيانهم الذي يحتاج إلى جهد كبير لمتابعة تنفيذه وإيصاله لدوائر صنع القرار، إلى التأكيد على أهمية حفظ التنوع الديني والثقافي على كوكب الأرض بوصفه تراثا عظيما للحضارة الإنسانية، وعلى أهمية تعاون زعماء الأديان العالمية والتقليدية مع المؤسسات الحكومية والمجتمعية المعنية بتعزيز التعايش السلمي للشعوب والدول من خلال الحوار ونشر القيم الانسانية الإيجابية.
ورأى المشاركون في المؤتمر ضرورة التأكيد على أهمية الدور الخاص للحكومات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والمنظمات الوطنية والدولية ووسائل الإعلام في مجال دفع ونشر قيم السلام والتعاون بين الدول والمجتمعات والشعوب.
وقد أدرك قادة الأديان خلال نقاشاتهم تلك الهجمة التي تتعرض لها الأديان، فأكدوا على إدانة كل أشكال الزج بالدين في الصراعات السياسية، وكل مظاهر الأنانية والتعصب والقومية العدوانية ودعاوى التمييز، مع ضرورة التمسك بالثوابت الروحية للتعاون من أجل التغلب على الفرقة والتعصب والتمييز والصراعات والخلافات القائمة على أساس الاختلاف الديني والعرقي والثقافي واللغوي. معلنين أن أعمال الخير والتراحم والتمسك بقيم السلام والعدل يمكن أن تعود بالنفع على الشعوب والدول أكثر بكثير من المواجهات العسكرية. ورفض المجتمعون التفسير الخاطئ للتعاليم الدينية وكذلك تشويه القيم الدينية كذريعة تتخذها التنظيمات الإرهابية والمتطرفة لنشر فكرها.
ووجه قادة الأدياة الدعوة للشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية للتوقف عن ربط الإرهاب بالدين لأن هذه الممارسات تلحق الضرر بصورة الأديان وبالتعايش السلمي وتضرب الثقة المتبادلة والتعاون بين أتباع الدين الواحد والأديان المختلفة.
وحتى يكون القادة الدينيون أكثر قرباً من الحلول العملية للصراعات العالمية أكدوا دعمهم لجهود الزعماء السياسيين الرامية إلى التسوية السريعة والحل الجذري للصراعات المسلحة ووقف سفك دماء الأبرياء في مختلف أنحاء العالم، مع الاستعداد للمساعدة بكل السبل في تعزيز جهود الزعماء بشأن التوصل إلى استقرار طويل الأمد، ومنع حوادث العنف بسبب الكراهية والتعصب، ودعم تعاون زعماء الأديان المؤسسات الدولية والهيئات الحكومية والمجتمعية كفكرة أساسية لتحقيق التوصيات والبرامج المهمة والملحة الرامية إلى ضمان الأمن الشامل في العالم، ومساعدة كل المجتمعات والشعوب بصرف النظر عن العرق والدين والمعتقدات واللغة والجنس في امتلاك الحق الذي لا يتجزأ في الحياة السلمية، وضمان الحقوق المتساوية والحريات لكل المواطنين مهما كان انتماؤهم العرقي واللغوي والديني والقومي والطائفي والاجتماعي أو وضعهم المادي والطبقي أو أي انتماء آخر، والتعامل معهم بروح الإخاء.
كما قدم قادة الأديان رؤاهم لدورهم في إحلال السلام ونزع فتيل الأزمات العالمية بالتأكيد على قيام قادة الأديان أنفسهم بالعمل على نشر قيم السلام والتفاهم المتبادل والتسامح في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والتجمعات الأهلية، وبذل كل الجهود لمنع الاستفزازات والعنف في الأماكن المقدسة لكل الأديان، وبذل كل الجهود الممكنة للحيلولة دون وقوع الأعمال الاستفزازية والعنف في دور العبادة والأماكن المقدسة لكل الأديان بما في ذلك القدس باعتبارها مكانا مقدسا لأتباع كل الأديان الإبراهيمية.
وهنا تبرز أهمية التقاء الديني بالسياسي، بمعنى أن تصل تلك النتائج التي حققها قادة الأديان في حواراتهم المتعددة، وما أنجزوه من اتفاق وتوافق يؤسس لسلام عادل واستقرار دائم في مختلف مناطق العالم الملتهبة إلى من بيدهم القرار من الساسة والقادة، وبدون ذلك ستظل هذه النتائج بعيدة عن بلوغ غاياتها. لذا كان من المهم إنشاء لجنة دائمة للاتصال تنبثق عن المؤتمر لتجوب العالم خلال الفترات البينية لدورات المؤتمر لنقل نتائج الدورة للزعماء السياسيين لإقناعهم بما توصلوا إليه من توافق لتجنيب البشرية ويلات الحروب والاقتتال.
كما يمكن لإدارة المؤتمر تشكيل لجنة إعلامية دائمة مهمتها نقل أفكار ورؤى السلام والتسامح والتعايش التي تجمع قادة وزعماء الأديان، إلى حياة الناس ليتفهموا حتمية التعايش السلمي وأنه لا مكان للصراعات الدينية والعرقية والمذهبية، وكذلك تكوين إعلاميين لديهم القدرة على نقل خطاب التسامح والتعايش إلى الناس عبر الوسائط الإعلامية المختلفة، لأنه لا جدوى مما ينجزه قادة الأديان مادام الوسطي غير بصير أو غير مؤمن بهذه الرؤى التسامحية.
جدة - يونا